Friday, March 03, 2006

لماذا رفض الإعلام الأميركي نشر الرسوم المسيئة؟


علاء بيومي

- الأسباب المعلنة للرفض- الأصوات المطالبة بإعادة النشر- الأسباب البعيدة
الأزمة الثقافية الدولية المترتبة على نشر صحيفة جيلاندز بوستن الدانماركية رسوما كاريكاتيرية مسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، التي شغلت العالم خلال الأسبوع الأول من فبراير/ شباط 2006، ذات أبعاد عديدة وهامة يأتي على رأسها موقف الإعلام الغربي تجاهها.
ففي حين أقدمت صحف أوروبية عديدة على إعادة نشر الرسوم المسيئة بدعوى الدفاع عن حرية الصحافة امتنعت الغالبية العظمى من وسائل الإعلام الأميركية –بما في ذلك كبراها– عن إعادة نشر الرسوم لأسباب مختلفة.
موقف وسائل الإعلام الأميركية الرافض لإعادة نشر الرسوم المسيئة يحتاج إلى وقفة تحليلية للنظر في أسبابه المعلنة والأخرى البعيدة، على أمل فهم الخلفية الثقافية للإعلام الأميركي بما يساعد على التعاون الإيجابي معه في المستقبل، وذلك مع تركيز خاص على وسائل الإعلام الأميركية المكتوبة.

"الرقابة الناتجة عن تدخل الدولة في عمل الإعلام رقابة مرفوضة، ولكن هذا لا يعني أن الإعلام حر في الإساءة إلى القراء، ومن حق القراء والمجتمع المدني معارضة الإعلام المسيء"الأسباب المعلنة للرفض
في الثامن من فبراير/ شباط 2006 نشرت صحيفة يو إس إيه توداي الأميركية مقالا إخباريا لكاتب يدعى بيتر جونسون يتحدث عن موقف الإعلام الأميركي من قضية إعادة نشر الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم.
المقال أشار إلى امتناع غالبية وكبرى وسائل الإعلام الأميركية عن إعادة نشر الرسوم بما في ذلك شبكات تلفزيونية كبرى مثل شبكات سي إن إن CNN وسي بي إس CBS وإن بي سي NBC، ووكالة أسوشيتد برس، والجرائد الكبرى مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز ويو إس إيه توداي.
وأكد الكاتب أن قرار عدم إعادة النشر أصبح القرار السائد وسط وسائل الإعلام الأميركية، وإن كان هذا القرار لم يمنع قلة منها من إعادة نشر بعض أو كل الرسوم المسيئة، ومن بينها جريدة فيلادلفيا إنكويرير وجريدة نيويورك صن وقناة فوكس نيوز اليمينية المعروفة، إضافة إلى قناة إيه بي سي ABC التي بثت أحد الرسوم ثم أوقفت نشره.
قرار قناة إيه بي سي بنشر أحد الرسوم ثم سحبه يعبر في جوهره عن صعوبة قرار عدم النشر على وسائل الإعلام الأميركية التي اتخذته، لذا أشار بيل كيلر، محرر صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، في معرض حديثه عن أسباب رفض صحيفته لإعادة نشر الرسوم، إلى أنه دخل مع مساعديه في "جدل طويل وحماسي" قبل اتخاذ قرار نهائي بعدم نشر الرسوم على أساس أن نشرها سوف "يرى على أنه إهانة متعمدة" للمسلمين، مضيفا أن قرار عدم نشر الرسوم "مثل أي قرار آخر بحظر جوانب إحدى القصص الإعلامية ليس قرار سهلا أو مرضيا بشكل كلي".
ولو حاولنا تلخيص الأسباب التي أعلنتها وسائل الإعلام الأميركية الرافضة لإعادة نشر الرسوم لأمكننا الإشارة إلى عوامل أربعة رئيسة:
أولا: أجمعت وسائل الإعلام الأميركية التي امتنعت عن إعادة نشر الرسوم على أن الرسوم مسيئة للمسلمين لسببين، أولهما رفض الإسلام لتصوير الرسل، وثانيهما طبيعة الرسوم التي سخرت من الرسول وربطت بين الإسلام والعنف والإرهاب.
ثانيا: رأت تلك الوسائل أن هدف صحيفة جيلاندز بوستن الدانماركية من نشر الرسوم كان استفزازيا بالأساس يهدف إلى إهانة المسلمين، حيث ذكرت صحيفة شيكاغو تريبيون أن شعور المسلمين بالإهانة "لم يكن مستغربا"، كما رأت أن "إهانة المسلمين تبدو وكأنها الهدف المقصود" من نشر الرسوم.
كما ذكرت صحيفة بوستن غلوب أن فليمنج روز المحرر الثقافي للصحيفة الدانماركية الذي بحث عن رسامي كاريكاتير لرسم الرسوم المسيئة فعل ما فعله بسبب طبيعة الرسوم "الحساسة"، وشبهت الصحيفة الرسوم بأنها أشبه بمظاهرة ينظمها "النازيون الجدد" في "حي يهودي".
ثالثا: رفض أصحاب هذا التيار أن تكون حماية حرية التعبير هي هدف الجريدة الدانماركية من نشر الرسوم، حيث نشرت جريدة بوستن غلوب مقالا إخباريا يتحدث عن الفارق بين الرقابة التي تفرضها الدولة والرقابة التي يفرضها المجتمع، وشدد المقال على أن الرقابة الناتجة عن تدخل الدولة في عمل الإعلام هي رقابة مرفوضة، ولكن هذا لا يعني أن الإعلام حر في الإساءة إلى القراء، فمن حق القراء والمجتمع المدني معارضة الإعلام المسيء.
كما أكد المقال أن وسائل الإعلام عادة ما تحكم على ما تنشره وفقا لمعايير عديدة ومختلفة بما في ذلك معايير اقتصادية وخوف الإعلام من فقدان جمهوره.
لذا وصفت صحيفة شيكاغو تريبيون ادعاء الصحيفة الدانماركية بأنها نشرت الرسوم دفاعا عن حرية التعبير بأنه ادعاء "مغرور" و"سطحي"، كما أكدت صحيفة نيويورك تايمز على الأمر نفسه، حيث رأت أن موقف وسائل الإعلام الأميركية الرافض لإعادة نشر الرسوم هو موقف "معقول" يتفق مع رفض الإعلام الأميركي "للهجمات غير المبررة على الرموز الدينية".
كما رأت صحيفة بوستن غلوب في مقال لها أن قرار الصحيفة الدانماركية افتقر "للمنطق المسؤول" الذي يستخدمه محررو وسائل الإعلام كل يوم للتعامل بحكمة مع ما يتوفر لديهم من معلومات.
رابعا: إضافة إلى ما سبق ساقت وسائل الإعلام الأميركية التي امتنعت عن نشر الرسوم أسبابا إضافية لقرارها مثل توفر الرسوم المسيئة على الإنترنت لمن يريد أن يراها، وإمكانية وصف محتوى تلك الرسوم بالكلمات، ولأن وسائل الإعلام نشرت مقالات وتقارير إخبارية وتحليلية كافية عن الرسوم وعن الأزمة.

"ترى بعض التحليلات الأميركية أن أزمة الرسوم في جوهرها أزمة هوية داخل المجتمعات الأوروبية ترتبط بنمو الإسلام والمسلمين داخل تلك المجتمعات، وأن لكل نموذج من نماذج الاندماج تبعاته"الأصوات المطالبة
بإعادة النشرفي مقابل المواقف السابقة أصرت قلة محدودة من وسائل الإعلام الأميركية –12 هيئة إعلامية على الأقل من بين آلاف الصحف ووسائل الإعلام الأميركية– على إعادة نشر الرسوم المسيئة.
كما نشرت وسائل الإعلام الأميركية المختلفة –بما في ذلك الرافضة لإعادة نشر الرسوم– مقالات وتقارير لمحللين وخبراء نادوا بإعادة نشر الرسوم لاعتبارات مختلفة، انطلاقا من مبدأ "حرية الرأي والرأي الآخر".
وفيما يتعلق بحجج أصحاب هذا التوجه، فقد ادعوا أن الجريدة الدانماركية نشرت الرسوم حرصا على حرية التعبير وليس بناء على رغبتها في الإساءة للمسلمين.
كما رأوا أن إعادة نشر الرسوم أمر ضروري تفرضه الدواعي المهنية للصحافة التي تحتم تغطية مختلف جوانب الحدث أو الخبر الإعلامي خاصة لو كان هذا الخبر بحجم قضية الرسوم المسيئة التي أصبحت قضية ثقافية دولية، كما رأوا أن المشكلة هي في الشعوب المسلمة والعربية التي لا تفهم مبدأ حرية الصحافة.
على سبيل المثال نشرت صحيفة وول ستريت جورنال مقالا لكاتب رأي يدعى دانيال شومنثال يلوم فيه الحكومات الأوربية والغربية على عدم مساندة الحكومة الدانماركية بشكل كاف خلال الأزمة، حيث رأى أن الرسوم لم تستهزئ بالإسلام ولكنها كانت تسعى لإبراز كيف يستغل المسلمون المتشددون الإسلام استغلالا سيئا مما يشوه صورته لدى الآخرين.
لذا رأي شومنثال أن نشر الرسوم جزء من الصراع مع المسلمين المتطرفين لا مع الإسلام.
وقد أيد الرأي السابق الكاتب الأميركي المعروف تشارلز كروثهامر -المحسوب على تيار المحافظين الجدد- وذلك في مقال نشرته صحيفة بتسبرج بوست جازيت، ذكر فيه أن عدم نشر الرسوم في وسائل الإعلام الأميركية بمثابة خضوع لإرادة بعض المسلمين الاستعلائيين الذين يريدون فرض إرادتهم على الغرب.
وأكد أن "السبب غير المعلن لرغبة العديد من الجرائد في عدم نشر الرسوم ليس الحساسية ولكنه الخوف" من انتقام المسلمين المتطرفين العنيف منهم.
كما وصف بعض أصحاب هذا الاتجاه موقف وسائل الإعلام التي امتنعت عن نشر الرسوم بالنفاق بحكم أن هذه الوسائل سبق لها نشر رسوم مسيئة للمتدينين المسيحيين.

"فهم الأميركيين للعلمانية بصفة خاصة ولقضية التعددية الدينية بشكل عام من الأسباب التي جعلت الإعلام الأميركي يتوقف عن إعادة نشر الرسوم، كما جعلها تقف مع المسلمين في أزمة الحجاب مع فرنسا"الأسباب البعيدة
الأصوات المطالبة بإعادة نشر الرسوم المسيئة لا ينبغي أن تمنعنا من البحث عن الأسباب الكامنة في ثقافة وسائل الإعلام الأميركية التي دفعتها لاتخاذ قرار عدم النشر الصعب، وسوف نلخص الأسباب السابقة في ثلاثة أسباب رئيسة.
أول هذه الأسباب يتعلق بفهم الأميركيين للعلمانية بصفة خاصة ولقضية التعددية الدينية بشكل عام، فالملاحظ أن وسائل الإعلام الأميركية انحازت للمسلمين في أوائل العام 2004 بخصوص قضية حظر الحجاب في فرنسا، حيث أجمعت غالبية وسائل الإعلام الأميركية على رفض الموقف الفرنسي انطلاقا من الفهم الأميركي للعلمانية الذي يحرص على حرية التدين وحماية الدين من الدولة ومن تعصب الأغلبية.
ومن المنطلق نفسه رأت وسائل الإعلام الأميركية أن الرسوم الدانماركية غير مبررة ومسيئة للأقلية المسلمة بالدانمارك ورفضت الانجرار وراء المطالبين بإعادة نشرها.
والسبب الثاني يرتبط بالقضية السابقة وهي موقف الإعلام الأميركي من قضية الهوية والاندماج داخل المجتمعات الغربية، إذ رأت بعض التحليلات الأميركية –مثل مقال نشرته صحيفة لوس أنجلوس تايمز لكاتبة تدعى سارا مولر– أن الأزمة في جوهرها أزمة هوية داخل المجتمعات الأوروبية ترتبط بنمو الإسلام والمسلمين داخل تلك المجتمعات، مشيرة إلى أن لكل نموذج من نماذج الاندماج تبعاته.
في حين ركزت صحيفة نيويورك تايمز في مقال لصحفيين هما لوري جودستين ودان بيلفسكي على موقف مسلمي أميركا من الأزمة الذي تميز برفض العنف والسعي نحو مبادرات الوساطة والتوعية.
ورأت المقالة أن موقف المسلمين الأميركيين ناتج عن أسلوب اندماجهم داخل المجتمع الأميركي، حيث يتميز مسلمو أميركا بارتفاع مستوياتهم التعليمية وقدراتهم التنظيمية، وتوحدهم من خلال منظمات رئيسة كبرى تمثلهم، وقدرة هذه المنظمات على فتح قنوات اتصال مع مؤسسات المجتمع الأميركي الكبرى بما في ذلك مؤسسات الدولة.
ورأى الكاتبان أن ذلك ناتج عن ترحيب الدولة والمجتمع الأميركي النسبي بهذه القنوات، ما يساعد على احتواء أي أزمات مشابهة من خلال قنوات الاتصال المفتوحة واستخدام أساليب الاحتجاج السلمي المتعارف عليها في المجتمع الأميركي.
أما ثالث الأسباب فيمكن في الإشارة إلى صعود أحزاب اليمين الراديكالي في بعض المجتمعات الأوروبية بما في ذلك الدانمارك التي شهدت عودة الأحزاب اليمينية الراديكالية منذ أوائل السبعينيات.
ويحتل حزب الشعب الدانماركي اليميني الراديكالي 13% من مقاعد البرلمان في الفترة الحالية، والمعروف أن الأحزاب اليمينية الراديكالية ذات أجندات معادية للمهاجرين.
في المقابل تغيب الأحزاب الراديكالية اليمينية من الولايات المتحدة لأسباب مختلفة على رأسها طبيعة النظام الحزبي الأميركي والقوانين الأميركية والثقافة السياسية الأميركية الرافضة للأحزاب اليمينية الراديكالية.
في الخاتمة يجب التأكيد على أن الأسباب السابقة قد لا تكون الأسباب الوحيدة القادرة على تفسير موقف الإعلام الأميركي الإيجابي من وجهة النظر المسلمة والعربية تجاه هذه القضية الهامة.
ولعل فهم أسباب هذا الموقف قد يساعد على بناء جسور الفهم والتعاون المتبادل بين العالمين العربي والإسلامي ووسائل الإعلام الأميركية في قضايا أخرى مستقبلية.__________________كاتب مصري