Wednesday, February 22, 2006

الإساءة لمقام النبوة بين الجماهير والنخب



نبيل شبيب

تحديد العدو
المقاطعة وفعّاليتها
من المسؤول؟

لم تهدأ الضجة بعد، ولا يبدو أنها ستهدأ وشيكا، فقد أخذ الحدث وردود الفعل المتبادلة عليه مسارا تصاعديا، ليس سهلا التنبؤ بآثاره، وليس سهلا بالتالي الحديث وسط "الألغام" عنه بقصد استخلاص بعض الدروس المبدئية. ولكن الرغبة في محاولة استقراء بعض الأخطاء من منطلق إسلامي، صادرة عن الحرص على رفع مستوى الأداء في التفاعل مع الحدث نفسه وأمثاله.

الغضب يجتاح المنطقة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، وتواكبه مواقف وخطوات رسمية وشبه رسمية، فهل يمكن النظر موضوعيا في الحدث والتفاعل معه وسط هذه الأجواء؟

الجواب هو محور ما نحتاج إليه، فالربط بين ردود الفعل الصادرة عن حياة الوجدان وبين التصرفات التي ينبغي أن تكون هادفة وبالتالي أن يحكمها التفكير المنهجي والتقدير الموضوعي للنتائج، لضبط مسار التطورات الجارية في الاتجاه الصحيح، هو الضمان لتحقيق ما نتطلع إليه وجدانيا وعقلانيا على السواء.

تحديد العدو
أول ما يلفت النظر في ردود الفعل الجماهيرية على الإساءة الكبرى لمقام النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي للإسلام والمسلمين ولكل من ينتمي إلى الحضارة الإسلامية وللقيم الإنسانية المشتركة، هو تعميم المسؤولية عن هذه الإساءة. ولبيان المقصود مع عدم الانزلاق في تسويغ ما وقع أو التهوين من شأن مسؤولية أطراف أخرى ذات علاقة بالحدث، يمكن تعداد النقاط التالية:

1- الطرف الذي مارس الإساءة في البداية هو رسام كاريكاتير، ورئيس تحرير صحيفة مسؤول عما تنشره، ولا يصنع ذلك كل رسام غربي، ولا كل صحيفة غربية. ومن المؤشرات على ذلك أن المشكلة بدأت بصاحب كتاب بحث عن رسام كاركاتير بهدف أن يصمم له رسوما من قبيل ما نشرته الصحيفة فلم يجد لفترة طويلة، ثم كان نشر تلك الرسوم في إطار مسابقة. كما تشير إلى وجود نسبة عالية من الرافضين -لتلك الممارسات- نتائجُ عمليات استطلاع الرأي ومواقف العديد من الإعلاميين.

"
في حدث الإساءة لم يكن يتجاوز حجم "العدو" في البداية رساما وصحيفة، ولا ريب أن مجرى التطورات التي صنعها الرد على الإساءة، ساهم في أن يمتد العداء في هذه القضية إلى أطراف ومستويات عديدة
"
2- الخلفية الفلسفية الثقافية للحضارة الغربية المعاصرة تقوم على مسيرة طويلة وصلت جزئيا على الأقل في عصر ما بعد الحداثة إلى ما يوصف بتدنيس المقدس. وكونُ ذلك يثير الاشمئزاز والرفض المطلق لدى من نشأ على معايير القيم الحضارية الإسلامية لا ينفي أن كثيرا من الغربيين لم يعد قادرا على التمييز بين المقبول والمرفوض في إطار "حرية" الفرد في تدنيس "مقدسات الآخر".

3- الحرية الفردية وما يتصل بها من حرية التعبير وحرية الإعلام وما شابه ذلك انحرفت في الغرب عن مسارها، وتنطوي على كثير من التناقضات والازدواجية، وهذا ما يكشف عنه مثلا عجزُ رئيس تحرير الصحيفة الدانماركية المعنية عن الجواب على سؤال ألقته عليه فضائية الجزيرة مرارا بشأن ما إذا كان مستعدا باسم الحرية لنشر صور كاريكاتيرية تمس قضية "المحرقة النازية"، بينما لم يتردد عن القول بقابلية نشر مثل تلك الرسوم عن الأنبياء.

4- الإعلام ومعظم مراكز الفكر والأدب والفنون وكذلك الأجهزة السياسية تقودها في الوقت الحاضر قيادات تنتمي إلى ما يسمى جيل "ثورة الطلبة عام 1968" الذي نشر مفهوم "الحرية المطلقة" في ميادين عديدة، وهو ما جعله العلمانيون المحدثون محورا لفكرهم وسلوكهم، ونشروا من خلاله أمراضا اجتماعية عديدة، بموازين القيم الإسلامية والإنسانية عموما. والآن فقط بدأت المؤشرات الأولى على ردود الفعل على مستوى الجيل التالي، ومن المؤكد أن الاتجاهات المغالية في الغرب على هذه الأصعدة ستنحسر تدريجيا.

في إطار حدث الإساءة للمقام النبوي الكريم -وشبيه ذلك ما تشهده حرب احتلال العراق، وممارسات التعذيب المخزية، والهجمة الصهيوأميركية العدوانية- جميع ذلك يتطلب من المسلمين أو من عامة أهل المنطقة الإسلامية، تحديد "العدو" بوضوح في كل حالة على حدة، لتحديد معالم المقاومة أو الرد أو المواجهة تحديدا دقيقا وهادفا ليكون فعالا. أما التعميم فهو في مقدمة ما ننتقده من المنطلق الإسلامي في كثير من مواقف الغربيين تجاه قضايا الإسلام والمسلمين.

وفي حدث الإساءة لم يكن يتجاوز حجم "العدو" في البداية رساما وصحيفة، ولا ريب أن مجرى التطورات التي صنعها الرد على الإساءة، ساهم في أن يمتد العداء في هذه القضية إلى أطراف ومستويات عديدة، لا ريب أن معظمها يفكر في الأصل بطريقة مشابهة لما يفكر به الرسام والصحيفة، ولكن لا ريب أيضا أن الرد ينبغي أن لا يستهدف من يفكر بل من يتصرف ويسيء، فهذا ما يساعد على امتناع أصحاب التفكير المشابه عن "التصرف والإساءة".

ولا قيمة هنا للقول الذي يتردد أحيانا على مستوى جماهيري، إن هؤلاء القوم لا يفهمون إلا بلغة "المصالح المادية" وإنه يجب "تركيعهم"، فكما أن الخوف على المصلحة المادية المحضة لا يمنع المتظاهرين المسلمين ومقاطعي البضائع الدانماركية وغيرها من الإقدام على ما يصنعون دفاعا عن مقام الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن الخوف لا يدفع "الغربيين" إلى التراجع، بل يبحثون في هذه الحالة عن وسائل أخرى لاستخدام إمكاناتهم في المواجهة المتصاعدة، وهذا ما يجعل وسائل إعلام غربية أخرى تتعمد فور اضطرار الصحيفة الدانماركية إلى تراجع جزئي، نشر الرسوم الكاريكاتيرية نفسها، وكأنها تريد القول لجماهير المسلمين، إذا أردتم المواجهة مع "الدانمارك" ومنتجاتها فاصنعوا ذلك مع سائر الأوروبيين ومنتجاتهم.

"
كل تحرك جماهيري يصنعه الوجدان الحي في الأمة لا يؤدي مفعوله على الوجه الأمثل، إلا إذا توافرت من ورائه عناصر التوجيه والتخطيط والتنظيم، وهذا بالذات ما افتقدته مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية وتفتقده الآن مقاطعة البضائع الدانماركية
"
المقاطعة وفعاليتها
ليس مجهولا أن المقاطعة الشعبية للبضائع وسيلة سبق استخدامها مع المنتجات الأميركية ثم همد مفعولها إلى حد كبير، رغم أن الأفاعيل الأميركية التي دفعت إليها في البداية لم تنقطع. وقد بدأت المقاطعة مع الانتفاضة وتصاعدت مع احتلال العراق، ولكنها لم تتصاعد مع الموجات التالية لتصعيد إخماد الانتفاضة بالقوة الوحشية، ولا مع الكشف عن مخازي المسؤولين الأميركيين في سجن أبو غريب، ولا مع الكشف المستمر عن مزيد من صور هدر حقوق الإنسان وقهره في غوانتانامو، ولا مع التوجه إلى حصار سوريا بعد العراق.

إن كل تحرك جماهيري يصنعه الوجدان الحي في الأمة لا يؤدي مفعوله على الوجه الأمثل إلا إذا توافرت من ورائه عناصر التوجيه والتخطيط والتنظيم، وهذا بالذات ما افتقدته مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية، وتفتقده الآن مقاطعة البضائع الدانماركية.

فالفارق كبير على سبيل المثال بين اختيار منتوجات معينة لشركات تساهم إسهاما مباشرا -وليس تحت عنوان تسديد الضرائب لحكومة عدوانية وما شابه ذلك- في العدوان على المسلمين والإساءة إلى مقام رسولهم الكريم، وبين تعميم المقاطعة على كل منتج وكل شركة تحمل الاسم الأميركي أو الآن الدانماركي.

الصيغة الأولى تساهم في تحويل عدو محدد المعالم إلى عدو كبير، وفي تحفيز من لا يتضامن معه في الأصل إلى التضامن "تعصبا". والصيغة الثانية يمكن أن تؤثر من منطلق التفكير في المصالح الذاتية في الامتناع عن المشاركة في العدوان والإساءة، بل ربما في المشاركة في الضغوط على من يمارسهما ليمتنع عن ذلك.

الصيغة الأولى تسمح بالتواصل مع جهات عديدة في الغرب ممن يسعى لاستعادة مكانة القيم في المجتمع، وممن يرفض ممارسات العدوان والإساءة، للعمل على تحرك مشترك. والصيغة الثانية تثير لدى هؤلاء التخوف من مثل تلك المشاركة، لا سيما في ظل تعميم خطاب المواجهة والاحتجاجات بما يشملهم ولا يميزهم عن سواهم.

من المسؤول؟
إذا كان المسؤول الأول عن العدوان والممارسات العدائية في الفكر والإعلام والفنون داخل الغرب فئات شطت بها مسيرة العلمانية الحديثة والمفاهيم الازدواجية للحريات والقيم، وتدعمها القوى المتحكمة ماديا في صناعة القرار، فإن المسؤول عن مواجهة قويمة لتلك الممارسات هي أولا السياسات الرسمية للحكومات في البلدان الإسلامية. ولكن نكرر أنفسنا إذا ذكرنا مع كل مناسبة مثل قضية الإساءة للمقام النبوي الكريم أن هذه السياسات تتأرجح ما بين الجهل والعجز المصنوع ذاتيا أو المفروض دوليا.

وهنا تقع المسؤولية على ما يُسمى "النخب" من القيادات الإسلامية والفكرية والأدبية والإعلامية وغيرها، ويلفت النظر أن الحكومات التي تحركت في هذه القضية تحركت على ما يبدو لأن الإساءة صدرت في الدانمارك ولم تصدر في الولايات المتحدة مثلا. ويلفت النظر أيضا أن كثيرا من فعاليات النخب جاءت مواقفها متأخرة عن التحرك الجماهيري، ناهيك عن قيادته وتوجيهه فكرا وتخطيطا وتنظيما.

بين أيدينا فتاوى.. وبيانات.. ومواقف.. تناولت في فترة سابقة مقاطعة البضائع الأميركية والإسرائيلية، ولكن الخطوات العملية لتنفيذها لم تصدر عن مخططات وأجهزة منبثقة عن التنظيمات القليلة المعدودة التي أصدرت الفتاوى والبيانات والمواقف والتي نتوسم فيها قدرا من الاستقلالية ووجود طاقات كبيرة وراءها أسماء مشاهير علمائنا ودعاتنا والمفكرين في بلادنا.

"
المسؤول عن مواجهة قويمة لتلك الممارسات العدائية من الغرب هي السياسات الرسمية للحكومات في البلدان الإسلامية، التي تتأرجح ما بين الجهل والعجز المصنوع ذاتيا أو المفروض دوليا, وكذلك "النخب" من القيادات الإسلامية والفكرية والأدبية والإعلامية وغيرها
"

معظم ما يُسمى قوائم المقاطعة كان مما انتشر عبر الشبكة العالمية باجتهادات فردية أو اجتهاد جماعات، وليس عن تشكيلات كبرى فوق مستوى الأحزاب والجماعات ذات الانتماء المحدد، مثل الحركة العالمية لمقاومة العدوان مثلا، أو عن حركات كبيرة مثل الإخوان المسلمين، أو عن روابط واتحادات مصلحية عبر الحدود كاتحاد المحامين العرب أو اتحاد الناشرين العرب أو اتحاد الكتاب العرب.

المفروض أن الطاقات القادرة على التفكير والتخطيط والتنظيم هي تلك التي تجمعها هذه التشكيلات والتنظيمات الكبيرة، وأنها هي التي تطرح نفسها في موقع قيادة الأمة وتوجيهها، والمسؤولية الأكبر واقعة على عاتقها أن ترصد في الوقت المناسب مثل تلك السقطات المخجلة لصحيفة محلية غربية، فتحدد معالم التصرف للجماهير من عامة سكان البلدان الإسلامية المعنية بالإساءة.

بل المطلوب منها أيضا أن تستشرف مسبقا ما يمكن أن يقع من أحداث مشابهة، وتكون قادرة على عمل مخطط يجري تنفيذه بغض النظر عن الأحداث الآنية وتطورها، من أجل إنشاء شبكة من التواصل والتفاهم مع الجهات ذات التأثير الأدبي والفكري والإعلامي والسياسي في البلدان الأخرى، بهدف أن تصدر عن تلك الجهات مبادرات ذاتية لمنع العدوان والإساءة أو اتخاذ موقف رافض واضح في الوقت المناسب، عند وقوع حدث من الأحداث الآنية.

لا يسمح الإيجاز فيما سبق بأن يشمل الحديث سائر ما يمكن ذكره تحت عنوان دروس وأخطاء، كما أنه لا يعني في الوقت نفسه أن ردود الفعل الجماهيرية على الإساءة للمقام النبوي الكريم كانت خالية من الإيجابيات، أو لن تترتب عليها نتائج إيجابية، مثل بيان عمق حياة الوجدان، واستعراض درجة الغضب الجماهيرية تجاه استمرارية العدوان الأجنبي على المسلمين وبلادهم وقضاياهم ومقدساتهم. إنما يحتاج الحديث في ذلك إلى موضوع مستقل، وقد تكون الفائدة الأكبر في بيان ما يمكن أن نتجنبه من أجل تحقيق أداء أفضل، فالعدوان ما زال مستمرا والإساءات لن تنقطع بين ليلة وضحاها.
ـــــــــــ
كاتب سور